هنادي طه حسين تجدد موتها مرة أخرى-د. أحمد الخميسي/ مصر
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
عالم آخر

هنادي طه حسين تجدد موتها مرة أخرى

  د. أحمد الخميسي . كاتب مصري    

بعد نحو خمسة وسبعين عاما كاملة تجدد " هنادي " التي ابتدعها طه حسين في " دعاء الكروان " موتها مرة أخرى ، شابة صغيرة ، وعاشقة ، وقتيلة . في رواية طه حسين الصادرة عام 1934 تقع هنادي الصغيرة في غرام المهندس الوسيم الأعزب المقيم بحكم عمله في الصعيد ، فتتكاتف عليها أمها وخالها ويجهز عليها بطعنة في الخلاء تفزع منها السماء . في مطلع أغسطس الحالي ، تسقط قتيلة صبية في الرابعة عشرة من عمرها طالبة في الإعدادية في سوهاج بيدي أمها وخالها ، خنقتها أمها بيديها حين اكتشفت أنها عاشقة يخفق قلبها لشاب من سنها ، ثم ثم استدعت شقيقها وهو مدرس متعلم ووضعت معه البنت داخل جوال ، وألقيا ببدن البنت الغض وعينيها المغمضتين على أحلامها في ترعة مركز مراغة ، وظلت الجثة طافية على سطح المياه حتى اكتشفها عابر سبيل وانتشلتها الشرطة . هكذا بعد خمسة وسبعين عاما مازالت " هنادي " تموت ، صغيرة ، عاشقة ، لا لذنب  سوى أن خيالات الحب والفرح شاغلت روحها . بعد نحو ربع القرن من صدور رواية طه حسين ، صدرت رواية  " الحرام " عام 1959 وفيها بدل يوسف إدريس اتجاه السؤال، فلم يعد العقاب الذي يحل بالمرأة ناجما عن أشواق القلب المحرمة ، ولكن من وطأة الواقع الاجتماعي الذي دفع " عزيزة " للتفريط في نفسها فقط من أجل الحصول على جذر بطاطا اشتهاه زوجها عامل التراحيل المريض العاجز . الحرام عند إدريس هو الفقر والعوز ، لكن حرام طه حسين هو الحب والشوق . أي السؤالين أشد قسوة ؟! أم أنه سؤال واحد؟ .     
مازالت البنات " ألطف الكائنات " تقتلن في الأدب وفي الحياة ، في الروايات وفي الواقع ، في الخيال وفي الحقيقة . والقسوة والقتل هكذا ، بلا مبالاة وبدم بارد ، تكاد أن تصبح سمة عامة لكثير من الجرائم . وتكمن وراء تلك القسوة وذلك القتل عوامل عديدة ، منها الفقر والجهل والتقاليد وتحقير البنات ووطأة الواقع الاقتصادي وذبول دور العلم والثقافة ، لكن ثمة شيئا آخر ربما يكون أهم ، هو ذلك الشعور العام بأنه ما من قيمة لشيء، أي شيء، وما من معيار لشيء ، أي شيء ، وأن كل القيم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية تساوت مع بعضها البعض ، فالشرف كالخيانة ، والعمل الشاق كالراحة والدعة ، والإخلاص كالغدر، وكتابة الأدب السخيف ككتابة أعظم الروايات ، والضحك كالبكاء ، والقتل كالإحياء ، والوطن كأنه الغربة . فما الذي قد يرسخ في وعي ، أو لا وعي ، مواطن بسيط حين يسمع أن لوحة لفان جوج قد سرقت من متحف مصري ؟ أو أننا قد نشتري الغاز الذي نبيعه لإسرائيل ؟ أو أن نواب البرلمان يستولون على موتوسيكلات المعاقين ليبيعونها لحسابهم في السوق السوداء ؟ أو يسمع أن هناك مسئولين كبارا تلقوا رشاو ضخمة في صفقة مرسيدس ؟ ما الذي قد يرسب في وعي المواطن حين يقرأ عن تعذيب شاب حتى الموت بدون أن يعاقب الفاعل الحقيقي على جريمته ؟ ما الذي قد يشعر به كاتب شاب موهوب حين يعلم أن ضابطا في هيئة كاتب يمنع عنه نشر رواية ؟ . ما الذي يفكر فيه شاعر موهوب بلا معارف حين تغلق أمامه كل السبل لمجرد أنه لا يحني رأسه لأحد ؟ . هكذا عادت " هنادي" بعد نحو خمسة وسبعين عاما ، تطفو على سطح المياه ، لتقول لنا إن الحب مازال ممنوعا ، لكن الأبواب كلها مفتوحة للنميمة والكراهية المغلفة بأفضل العبارات ، تطفو " هنادي " وستظل طافية لتقول لنا إن المجتمع الذي يقتل الموهبة والثقافة والضمير تمتد يده إلي قلوب الصبايا الصغيرات لتدفن فيها خيالات الحب البريء ولمعة العيون التي تخيلت للحظة أن السعادة ممكنة ، هكذا بسهولة ، مثل جرعة الماء العذب ، هكذا بسهولة ، كما يتلقى المرء ضوء القمر على كفيه ، أو هكذا بسهولة ، كما يرفع المرء رأسه للمطر .     

***



 
  د. أحمد الخميسي/ مصر (2010-08-28)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

هنادي طه حسين تجدد موتها مرة أخرى-د. أحمد الخميسي/ مصر

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia